• عارٌ عظيم



    لأول مرة في حياتي أحاول أن أبدأ المقال من رأسه ثم أتشعّب، فقمت باقتباس المغزى الأصلي من بيت الحكمة "لاتنه عن خلق وتأتي مثلهُ *** عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ" ليكون عنواناً لمقالي هذا، اقتبست بتصرّف ماعنونتُ به هذا المقال عارٌ عظيم، مما يدلُ قارئي الكريم على أنني حينما أبدأ بكتابة مقالٍ ما، فإنني أسخر نفسي بهيئةٍ عكسية مبتدءًا من أدنى تفاصيل المقال حتّى أختم بعظيمه، وهو ما أسميه البحث والغوص في أدق التفاصيل متلاشياً بذلك كل الشوائب التي قد تتخلل فهمي لما أكتب عنه، وحقيقةً لن تستطيع أن تكتب مقالاً عن أمرٍ ما دون أن تعرف أدنى أموره .

    هي طريقة مجرّبة في أغلب أمور الحياة وليست فقط للكتابة، فأذكر أن أحد نوّاب مجلس الإدارة في القطاع الذي أعمل به، كان يوجه لي النصائح كالمعتاد، وكان يخبرني بأمر تعلمته من يومها، أن كبار المسؤولين إذا أرادوا أن يعرفوا حقيقةً ما هي مشاكل قطاعاتهم، والهموم الملقية على عاتق كل المرتبطين بهذا القطاع فما عليهم سوى اتخّاذ أمر بسيط جداً، وهو "التقرب والتودد بالابتسامة والسلام بصدق نية طبعاً" للسائق الشخصي، أو للسكرتير، أو حارس الأمن، فإن الكلمة حينما تصدر من أحد هؤلاء تكون صادقة ولاتحمل أي شوائب تدلّس الحديث، ما استنتجته من كلام هذا الرجل "الناجح جداً"، هو أن أقوم على الفور بانتهاج هذا النهج في كل الأمور التي أرغب معرفتها وأن أجعل كل أمر على طبيعة قطاع، وأصغر الأمور فيه تكون هي السائق والسكرتير والحارس.

    أذكر أن أحد رؤسائي السابقين حينما كنتُ أعمل في قطاعٍ آخر، كان كثير التذمّر من الموظفين الذين تحتوي مكاتبهم على أكوابِ القهوة وكان جميع الموظفين في صالة واحدة عدا هذا الرجل، فلقد كان منغلقاً قليلاً في مكتب مستقل يصعب علينا رؤية تفاصيل يومه عن قرب، فوجئت في إحدى الاجتماعات المنعقدة في مكتبه بكوب قهوة، وكأس ماء، وعلى طاولة الضيوف فنجاني شاي بدت عليهما معالم القدم، قلّبت المسألة برأسي، تذكرت البيت القائل
    "لا تنه عن خلق وتأتي مثلهُ *** عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ" من حينها وأنا أنظر لهذا الرجل بنظرة ربما تكون دونية، لا متعالية طبعاً، ولكن لأنني من مدمني القهوة الساخنة التي تتبدل على مكتبي كل ساعة تقريباً، -فكان الموضوع يلامسني جداً- والتي لايحبذ هذا الرجل رؤيتها لأنها تعكس صورة غير مرتبة على حد قوله، بل وربما تكون خطيرة على الأوراق والمعاملات، بينما مكتبه وهو الأهم بيننا "وداخل هذا الرجل" يعجّ بالكثير منها.

    رسالة صادقة لكل مسؤول، ينسى أن يهتم بأدق التفاصيل التي يأمر بها مرؤسيه، "أن لا ينه من هم تحت إمرته عن أمرٍ هو يقوم به" وهناك أمثلة عديدة –لربما- قد لامستنا يوماً ما، وعلى سبيل المثال لك أن تتخيل منظر معلمٍ ينهر ويزجر طلابه عن التدخين، وعند خروج الطلبة من المدرسة، يفاجأون بهذا المعلم وقد أشعل سيجارته في سيارته على مرأى منهم، أو قد يراه أحدهم بالصدفة في أحد الأماكن العامة، عندها افتح لك آفاق التخيل لما قد تكون نظرتهم له!
    تعليقات كتابة تعليق

    يرجى كتابة مايظهر في الصورة بشكل دقيق للمتابعة

لمراسلتنا والتواصل معنا
للتسجيل و دخول حسابك
صحيفة سعودية مرخصة من وزارة الثقافة و الإعلام