• "ترى ملفك عندي"


    بقلم : فهد بن محمد السديري "ترى ملفك عندي"، عبارة نسمعها من أحدهم لآخر عندما "يدبل" كبده.
    هذه العبارة تعني أن ماضيك كاملاً عندي، وهي أيضاً تلميح بدون تصريح بوجود شيء من "الخساسة" في هذا الماضي.

    كما تحمل العبارة بشكل مبطن طلب من راعي الملف أن يستخير ولا "يحارش" صاحب العبارة حتى لا يلتفت له وينبش في ملفه المذكور الذي قد لا يحتوي في الغالب الا على زلّة أو زلتين وقليلاً من الأمور التي لا تهم سكان كوكب الأرض في نهاية الأمر، وتظل القضية بين اثنين من المواطنين أحدهما مندبلتن كبده.

    وحينما تسمع هذه العبارة من مسؤول حكومي فالغالب إنك تعلم أغلب ما في هذه الملفات من أمور تهم الأمن او المجتمع وتعني العبارة هنا معلومة أو نصيحة بعدم الكذب او بطلب التوقف عن "البزوطه" و "الخمبقه".

    والحكومات بشكل عام لديها الآن أكثر من مجرد ملف يحوي بعض البيانات، فهم بخلاف معرفة تاريخك يعلمون اين أنت حالياً وما هو نوع النشاط الذي تمارسه وبماذا تثرثر، وبإمكانهم إحضارك في أي وقت يشاؤون بواسطة بعض التقنيات.

    كان هذا هو مبلغ علمنا بهذه العبارة واستخدامها حتى وقت قريب.

    أما اليوم.. فهذه العبارة أصبحت أكبر وأشمل وأخطر باكتمال ملفات حقيقية لأكثر من ملياري مستخدم للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ليست من قبل أفراد أو حكومات، بل شركات تجارية تستخدمها ضدنا بشكل ممنهج ويومي ولحظي لتوجيهنا وقيادتنا "جميعاً" الى حيث يريد من لديه تلك الملفات الدقيقة والمحدثة ساعة بساعة، وأكثر من هذا فهي تستخدمنا في نفس الوقت كأعين لها و "جواسيس" إن صح التعبير. ورجاءً.. لا تستنكروا كلمة "جواسيس" لأن هذه هي الحقيقة وإن رفضناها.

    خذوا السالفه من بدايتها ..

    يتذكر معظمنا سيارات شركة غوغل التي كانت تجوب الشوارع في أمريكا وأوروبا واليابان وكوريا وغيرها لتصور الشوارع بنظام الثري دي. كانت هذه العملية بإدارة مبرمج شاب يدعى "جون هينكي" يدير شركة تدعى "كيهول للتكنلوجيا" في عام 2004، وتم دمج هذه الشركة بغوغل لتصبح فيما بعد موقع الخرائط المعروف "غوغل إيرث".

    أرسل "جون هينكي" السيارات لمدن العالم وشوارعها للتصوير فيما سمي ببرنامج "رؤية الشارع" وهي خدمة قدمتها شركة غوغل، ولكن في عام 2010 تم الكشف عن أن هذه السيارات تغوم بعمل آخر غير التصوير وهو المرور في الاحياء السكنية والتجارية وتلتقط البيانات والمعلومات من شبكات الواي فاي من كل جهاز تمر به بشكل غير قانوني في كل الدول التي عملت فيها هذه المركبات.

    تمت التغطية حينها على جون هينكي في تلك الفضيحة، وقام بعدها بتأسيس شركة العاب تدعى "نيانتك لاب" وهي الشركة التي أنتجت فيما بعد لعبة "بوكيمون غو".

    في الطرف الآخر .. هنالك في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي أيه" قسم يدعى " إن كيو تل " وهو جهة استثمارية تابعة للوكالة تستثمر في شركات تقدم فائدة ملموسة للوكالة أو جهات الأمن الوطني الأخرى في الولايات المتحدة.

    كان رئيس هذا القسم حينها شخص يدعى "غيلمان لوي" الذي ترك العمل في القسم والتحق مباشرة بمجلس إدارة شركة "نيانتك لاب" منتجة "البوكيمون غو" والتي أسسها "هينكي" باستثمار من الوكالة. وكان غيلمان لوي هو نفسه من استثمر سابقاً أموال الوكالة في عمل جون هينكي في بداياته في شركة كيهول.

    البوكيمون غو.. لعبة موجودة على ملايين الأجهزة المحمولة ويعرف من يديرون اللعبة موقعك، ولأن اللعبة تعمل عن طريق تشغيل الكاميرا فهم يرونك من الكاميرا الأمامية ويرون ما تراه من الكاميرا الخلفية وكل هذا مخزن في سيرفرات ضخمة جداً يرجعون لها وقت الحاجة.

    ويظل السؤال: كيف أصبحنا جواسيس للسي آي أيه مثلاً؟

    في هذه اللعبة يوجد أهداف عادية ذات قيمة منخفضة ومن الممكن اصطيادها في أماكن كثيرة من العالم وذلك ليتمكن اللاعبون من رفع رصيدهم في اللعبة، ولكن عندما تريد الوكالة مراقبة مكان ما كسفارة أو فندق أو مقر يشتبه فيه وتصويره من كل الزوايا وبشكل غير مريب فهم يجعلون الأهداف ذات القيمة العالية موجودة حول الموقع المراد تصويره ومتابعته.. وحينها سيتوجه جيش من اللاعبين بالتالي لهذا الموقع لاصطياد اهداف اللعبة من البيكومونات الصغيرة ولكنهم في نفس الوقت يبثون صور حيه للوكالة عن الموقع المستهدف من كل الزوايا.

    وباختصار .. بدلاً من أن ترسل الوكالة عملاؤها الميدانيين للقيام بأعمال المراقبة.. أصبح ملايين اللاعبين في لعبة البوكيمون عملاء ميدانيين مكلفين بأعمال المراقبة والتصوير لصالح الوكالة مجاناً وبدون علمهم وبدون اثارة أي ريبة او شك عند المستهدفين بالمراقبة. هذه ليست نظرية مؤامرة بل هذا ما حدث ويحدث فعلياً بخلاف مراقبة الهواتف والبريد الالكتروني واي سجل الكتروني على ذمة ما ذكره "إدوارد سنودن" المبرمج الأمريكي اللاجئ في روسيا.

    ولهذا فهذه اللعبة على سبيل المثال ممنوعة في الصين وإيران ويمنعها الجيش الإسرائيلي ويمنعها الروس داخل الكرملين وفي بعض المواقع المهمة.

    بقيت أسئلة مهمة هنا.. ملفاتنا عند هؤلاء فقط ام عند آخرين؟ وماذا يريدون منها؟

    هناك معلومات وبيانات.. وهنالك ملفات.

    المعلومات والبيانات تجمعها المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر وغيرهم بشكل عام.

    ونعلم جميعنا أن وسائل التواصل الاجتماعي هذه نشأت بهدف تجاري بحت وبفكرة بسيطة يدور محورها حول انشاء مواقع تواصل مجانية لكل الناس ليتشاركو أفكارهم وبياناتهم، وفي المقابل تقوم تلك المواقع بتمويل نفسها وتحقيق الأرباح من خلال الإعلانات التجارية. وهذه هي الفكرة ببساطة لصناعة قيمتها أكثر من ترليون دولار سنوياً.

    ولكن ما حدث هو أن تلك الشركات وشركات أخرى اندمجت معها طورت آلية الإعلانات الموجهة من خلال عمل خوارزميات واحصائيات في البداية لاستهداف جمهور محدد ترشدهم اليه تلك الاحصائيات والبرمجيات في الإعلانات، كتحديد الجمهور من دولة معينة أو مدينة او متحدثي لغة محددة او مجموعات ذات اهتمام مشترك.

    ولكن الموضوع ذهب الى ابعد من هذا بكثير، حيث استخدمت هذه الشركات تلك المعلومات لتحقيق أغراض سياسية وتخريبية وتحريضية متعمدة نرى نتائجها اليوم بوضوح وسأشرحها بشيء من التفصيل.

    لا شك أن اغلبنا سمع عن شركة بريطانية تدعى "كامبريدج أناليتيكا" والتي أثيرت حولها الفضيحة المدوية لشبكة فيسبوك فيما يخص بيعها لمعلومات وبيانات أكثر من 30 مليون أمريكي واستخدام هذه المعلومات والبيانات في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016 والتي فاز بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

    تسببت هذه الفضيحة في استدعاء مؤسس والرئيس التنفيذي لفيسبوك السيد "مارك زوكربيرغ" للتحقيق والشهادة أمام الكونغرس الأمريكي عن بيع بيانات مستخدمي الفيسبوك لشركات تستخدمها في الإعلانات الموجهة من خلال شركات مثل "كامبريدج أناليتيكا"، والتي حددت في ملف بيانات كل شخص من هؤلاء حوالي 5000 نقطة بحث أو رصد "كالرتويت والاعجاب" تساعد تلك الشركات في التحليل ثم تحديد نوع الإعلان الذي يناسب كل فرد. كما استخدمت نفس نقاط البحث هذه في توجيه الرأي العام وخداعه وخاصة فيما يتعلق بالاستفتاءات والانتخابات الديمقراطية أو نشر الشائعات وبث الكراهية.

    ربما لم نكن سنعرف كل هذه التفاصيل لو لم يفز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات والحملة الكبيرة التي قام الديمقراطيون بها "عن جهل" عندما علموا أن حملة الرئيس قد تعاونت مع " كامبريدج أناليتيكا" (والتي كان بالمناسبة أحد مؤسسيها مستشار الرئيس ترامب السابق "ستيف بانون") الذي استخدم الشركة لإخراج كل المرشحين الجمهوريين من المنافسة والإبقاء على صاحب المركز الأخير "تيد كروز" لينافس ترامب على ترشيح الحزب ، كما وأخرجت الشركة من لم يسبق له التصويت من المواطنين في النهائيات ليصوت لترامب بالإضافة لنشر الشائعات عن منافسته حينها الديمقراطية هيلاري كلينتون .

    وما قتل الديمقراطيين في الواقع هو ان الملايين التي خرجت تصوت لترامب لم تكن هي المؤثرة بشكل فعلي في انتخابه بقدر ما كان لسبعين ألف صوت حسمت ثلاث ولايات بنظام الانتخابات الأمريكي لصالح ترامب وجعلته الرئيس، لذا حاول الديمقراطيين الصاق الموضوع بشكل مباشر بالروس لكسب التعاطف الشعبي ولفتح التحقيقات لعل وعسى ان يجدوا ما يسقط الرئيس فأحضروا المحقق الخاص "روبرت مولر" والذي يعمل كمحامي وقبلها كرئيس للاف بي أي لأكثر من عقد للتحقيق. وللتذكير هذا التحقيق استغرق أكثر من عامين ولم يسفر عن شيء ولهذا ايضاً أسباب.

    بعيداً عن ترامب.. فتحت التحقيقات في أمريكا الباب واسعاً للتحقيق في أنشطة شركة "كامبريدج أناليتيكا" واسفرت التحقيقات عن عمل الشركة قبل انتخابات أمريكا مع حملة الانفصال البريطانية "بريكست"، وحقق مجلس العموم البريطاني في هذا الموضوع بدعوى التدخل في سير العملية الديمقراطية مع مدراء الشركة من ضمنهم رئيسها "اليكس نيكس" وسيدة تدعى "بريتني كايزر" كانت من كبار المسؤولين في تلك الشركة وتعاونت مؤخراً مع السلطات وشهدت في تحقيق مولر لإدانة شركتها وعملهم، وتبعها في هذا عدد من الموظفين المنشقين عن الشركة.

    امتدت أنشطة هذه الشركة التي تحلل وتستخدم بيانات مستخدمي الانترنت ومواقع التواصل الى أماكن كثيرة في العالم بغرض توجيه الرأي العام والتدخل المباشر في حملات الاستفتاءات والانتخابات ومن ضمنها غانا وماليزيا وترينداد وغيرها.

    ففي ترينداد مثلا وهي دولة مكونة من عرقين أساسيين هما السود وهم غالبية والهنود وهم أقلية، وبقليل من التحاليل النفسية المبنية على المعلومات والبيانات قبل الانتخابات الأخيرة أطلقت الشركة حملة كبيره للسود لحثهم على الامتناع عن التصويت بعنوان "Do So" أي افعلها ولا تصوت، وبالفعل لم يصوت كثير من الشباب السود فيما صوت الهنود وكسبوا الانتخابات وجرى تحقيق كبير هناك في هذا الأمر.

    واليوم.. ربما انتهى أمر شركة " كامبريدج أناليتيكا" التي أعلنت افلاسها وخرجت من السوق هرباً من المسؤولية الجنائية والسياسية حول العالم، ولكن يظل السؤال كم بقي من مثلها مازال يقلب ملفات أكثر من ملياري مستخدم للأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؟

    أمر آخر.. لماذا لم يبرئ تقرير مولر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولم يجرمه في نفس الوقت من تهمة التواطؤ مع روسيا؟

    الأمر بسيط.. اتهام روسيا المباشر على التدخل في الانتخابات كان على خلفية ذهاب "بريتني كايزر" وهي من كبار المسؤولين في "كامبريدج أناليتيكا" لزيارة روسيا قبيل الانتخابات الامريكية. ورغم تعاونها الذي فضح كثير من أساليب التلاعب بملفاتنا الا ان المفاجأة أنها كانت عام 2008 تعمل لصالح حملة المرشح الديمقراطي آنذاك "باراك أوباما".

    وبالتالي أي ادانة لترامب ستلحق بالديمقراطيين واوباما بشكل أو بآخر، وستفتح أبواب الجحيم على الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء.. ومن هنا جاء تحقيق مولر الذي استغرق عامين بشكل مالغ ومائع لا طعم له ولا رائحة.

    فلا ادانه عند مولر ولا تبرئة فالجميع مذنب بدرجات متفاوتة بقدر تفاوت درجات تطور البرمجة.
    يقول البروفيسور الأمريكي "ديفيد كارول" وهو بالمناسبة أول من طلب بشكل رسمي ملف بياناته من شركة "كامبريدج أناليتيكا" وقاضاهم في المحاكم البريطانية والاوروبية قبل ان يصدر قرار بتسليمه بياناته بل وتجريم الشركة جنائياً قبل ان تعلن افلاسها وتختفي.. يقول:

    "لدى تلك الشركات اليوم 5000 وحدة رصد لكل منا.. ولكن بعد عشر سنوات من الآن سيكون هناك في ملف كل واحد منا أكثر من 170 ألف وحدة رصد مما سيجعلنا معرضون بشكل أكبر للتلاعب."

    كان بودي ان أسهب في التفاصيل الدقيقة والامثلة هنا وهناك.. ولكني لم أرغب ان يكون مقالي بطول تحقيق روبرت مولر فلا يقرأه أحد، لذلك اختصرته بقدر استطاعتي لأوصل لكم الفكرة مدعمة بعض الشيء بوقائع لا تدحض.

    والخلاصة: إذا قيل لك " ملفك عندي " ولم يكن المتحدث فرد أو حكومة. فأعلم أنك أمام وحش من طراز "كامبريدج أناليتيكا" يستطيع توجيهك الى حيث يريد في أي وقت وبدون موافقتك مع انهم لا يعترفون أن ملفك عندهم.

    وأخيراً.. قبل أيام فقط التحقت تويتر بالركب وأعلنت انها شاركت بيانات الأفراد مع "شركاء معلنين" دون موافقة المستخدمين.

    لذا أنصح وينصح كثيرون من العارفين بهذه الأمور الجمهور بعدم التساهل في تقديم بياناتهم ومعلوماتهم بشكل مجاني في المواقع الالكترونية بشكل عام وذلك لنحد ولو بشكل جزئي من قابليتنا للانقياد اللاإرادي لتوجهات مثل هذه الجهات المشبوهة.

    وكل عام وأنتم بخير ومن العايدين.
لمراسلتنا والتواصل معنا
للتسجيل و دخول حسابك
صحيفة سعودية مرخصة من وزارة الثقافة و الإعلام