• أردوغان وجنون العَظَمة


    بقلم : يوسف علاونة يتخيل المجنون نفسه عاقلا إذا كان الطبيب الذي يفحصه في طوارئ مستشفى المجانين متواطئا معه ويصر على اعتباره عبقريا وبكامل قواه العقلية!.

    هذا ما تفعله مع الرئيس التركي رجب اردوغان دولة عربية هامشية صغيرة هي قطر وجماعة عربية منقرضة انكشفت وخسرت كل رصيدها السياسي وفقدت كونها خيارا محتملا وبديلا هي جماعة (الإخوان المسلمين)!.

    يشجع هؤلاء (العرب) مضافا إليهم أتباع المشروع الإيراني الشيعي إردوغان على الإيغال بحلم تاريخي منقرض يعيد حقبة الهيمنة التركية الطورانية على العرب يدفعهم إلى ذلك غرض واحد وهو إضعاف المملكة العربية السعودية باعتبارها المؤهل الوحيد الذي يملك مقومات قيادة مشروع عربي لصدارة الإسلام.

    وكل من هؤلاء مشروعه الخاص بطبيعة الحال.. فإيران الصفوية تريد دمار العالم العربي لأنه بتكوينه الطبيعي (عالم سني)، وقطر وجماعة الإخوان المنقرضة وصلت اللقمة منذ سنوات إلى حلوقهم، فصاروا قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على أهم البلدان العربية قبل أن يتم دحرهم وتشتيتهم شذرا مذرا!.

    كانت جماعة الإخوان المسلمين التي وجدت عبر تاريخها الطويل قواسم مشتركة وتعايشية مع التشيع، هيمنت على أكبر دولة عربية (مصر) وبدا أنها على وشك التمدد إلى البقية عندما انتفضت دولتان رئيسيتان هما السعودية والإمارات فقامتا بتحطيم هذا الحلم المرعب فأمكن استعادة مصر من قبضة الجماعة.

    وكانت تركيا تجد في المشروع الإخواني ما يلبي طموحها بتكرار حقبة هزيمة المماليك بعد الانكفاء عن المشروع الأوروبي لبني عثمان، فهذه البلاد العربية إذا غرقت بالفوضى فإنها ستصبح لقمة سائغة في الحلق التركي المخدوع بازدهار اقتصادي يقوم على السياحة والخدمات والقروض الاستثمارية!.

    ولهذا كانت هزيمة مشروع الإخوان وكذا ثني السياسة الأميركية عن تفاهمات مع إيران وسكوت عليها، بالعودة لسياسة عقابها ومحاصرتها بمثابة كابوس لطموحات تركيا!. هنا لم يكن أمام الترك غير المضي بحلم عاجزين تمثله (دولة قطر) بعودة الحلم الإخواني عبر مواصلة استنزاف السعودية والإمارات ومصر!.

    هذا الواقع (الجيوتاريخي) - الديني والسياسي والتاريخي والجغرافي - يتقاطع مع تجربة نهوض تركيا التي قادها إردوغان وشركاؤه في حزب العدالة والتنمية والتي تكاد تركيا أن تخسر منجزاتها فيها بسبب السلوك الديكتاتوري للرئيس التركي.. ففي النهاية كانت الهزيمة هي مصير كل من تحدى السعودية!.

    وحزب العدالة والتنمية الذي نهض بتركيا أسسه تلامذة نجم الدين أربكان رحمه الله، وهو أحد الإسلاميين المحاربين للعلمانية، تلامذة سعيد النورسي الملقب (بديع الزمان النورسي).

    وقد قام الحزب بجهد كبير في القضاء على الانقلابات العسكرية التي كانت تحرم تركيا من أي توجه ديمقراطي، حتى لا يصل الإسلاميون ويحاولون أسلمة تركيا.

    فالانقلابات العسكرية كانت تقوم حتى على رؤساء علمانيين مثل (تورغوت أوزال) وغيره، فالخونة الأتراك عملاء الماسونية وعملاء الغرب الصليبي كانوا يسيطرون على الجيش التركي منذ أيام مصطفى أتاتورك وكل الحقبة التالية من بعده.

    وقد برز في حزب التنمية والعدالة ثلاثة قادة أقوياء ومخلصين للحزب ولتركيا، وهم: رجب طيب أردوغان، وعبدالله غول، وأحمد داوود أوغلو، وكان هؤلاء الثلاثة يتبادلون الأدوار إخلاصا للحزب وإخلاصا لتركيا ولإصلاحاتها.

    وقد نهضت تركيا في عصرهم ولا ينكر ذلك إلا مكابر، وقد نجح هذا الثلاثي في منح الأتراك الراغبين بالتمسك بشعائر الإسلام حرية، كان المفروض أن تكون حرية دينية طبيعية في أي دولة محترمة، وهي حريات يتمتع بها المسلمون (الحجاب مثلا) في كل أوروبا وأميركا وجرى حرمان الأتراك منها زمنا طويلا.

    لكن نموذج حزب التنمية والعدالة الناجحٌ بحدود في دولة مثل تركيا وفي وضعها الخاص، فلا يمكن نقله لمكان آخر، ولهذا فإن منهاج هذا الحزب غير صالح في دول عربية يتمتع الناس فيها بحريتهم الدينية الكاملة.

    وهذا مثال توضيحي على ذلك: عندما يكون هناك رجل في قعر بئر مظلمة ورجل يبعد عن حافة البئر مئة متر، وآخر بعشرة أمتار فقط ونريد التقريب بينهما، فالحق أن نخرج القابع في قاع البئر إلى الحافة، وكلما باعدناه عنها يكون ذلك أفضل، ولكن الحافة هنا تعتبر مكانا لا بأس به، وليس من العقل أن نسحب البعيد عن البئر لنقربه للحافة، سواء كان بعيدا مئة متر أو عشرة أمتار!. لهذا يقع المتحمسون للنجاح النسبي في إعطاء الناس بعض الحريات في تركيا في فخ الاحتفال المبالغ فيه، رغم رفض طبقة كبيرة من الأتراك هذه الأسلمة، مع أنهم يرون أنفسهم مسلمين، لكنهم يريدون الحياة الغربية نمطا وسلوكا شخصيا.

    وقد كان من ثمرات هذه الحريات حرية العمل وإزالة القيود عن الشعب فنهض اقتصاديا على عاملي العقار والسياحة، ولأن الشعب التركي شعب نشط وعملي ومهني فقد ساعد في هذا النجاح السريع.

    أما إصابة أردوغان بجنون العظمة فالشاهد على ذلك ليس دكتاتوريته في حكم تركيا فذلك يمكن تأويله، ولكن دكتاتوريته في حكم الحزب وإبعاد الناجحين فيه من القيادات المخلصة، والتي آثرت الانسحاب للحفاظ على الحزب والحفاظ على المكتسبات التي قدموها لتركيا بلدا وشعبا، وهم عبدالله غول ريئس الوزراء ثم رئيس تركيا في عصرها الذهبي، والذي جُيرت نجاحاته لأردوغان بسبب سيطرة الأخير على الإعلام، ثم أحمد داوود أوغلو الذي تنازل بكل هدوء وانسحب بعد شن جماعة أردوغان عليه حربا شرسة، عرف أنه لو خاضها فسيؤذي تركيا لا منافسه، كذلك ظل يحصر الخلاف لأجل وطنه تركيا دون أن يهمه الظهور الشخصي، فانسحب بهدوء كما فعل عبدالله غول، مع فارق أن أحمد أوغلو تعرض للإهانة فصبر وصفق لأردوغان ليشعره بالنصر، لا تهمه جراحه مادامت المعركة في صالح تركيا المسلمة!.

    هذه النفوس الكبيرة لعبدالله غول ولأحمد داوود أغلو والإيثار الذي قدماه يجب ألا ينساه الأتراك ولا المتابعون المهتمون بالشأن التركي، فقد قدما مثالا لنبذ الأنانية وسحق الرغبات الذاتية في سبيل أهداف أسمى لهم وهي المجتمع التركي.

    عام 2014م كانت الأمور في تركيا وداخل الحزب لرجل واحد هو أردوغان، ولكن في هذا التاريخ بدأت تركيا تعود إلى الوراء في كل المجالات، صحيح أنها لم تعد لما قبل 2002م ولكنها في الطريق، والسبب دكتاتورية أردوغان وإصابته بجنون العظمة بعد أن نسب له إعلامه كل نجاحات رجالات حزب التنمية والعدالة.

    فهل يكون أردوغان كالتي نقضت غَزْلها من بعد قوةٍ أنكاثاً؟!. حفظ الله تركيا وشعبها من المغامرات.. أما المبهورين العرب بأردوغان فذلك الوجه الآخر من أوهام مريضة ذاتية متأصلة لا صلة لها بتركيا إلا في نطاق الوهم حد الخبال!.

    *يوسف علاونه*
    twitter: @ysf_alawneh
لمراسلتنا والتواصل معنا
للتسجيل و دخول حسابك
صحيفة سعودية مرخصة من وزارة الثقافة و الإعلام