• ماذا يريد بوتن؟


    بقلم : فهد بن محمد السديري ماذا يريد فلاديمير بوتن؟ هذا سؤال سأله صحفي لوزير الدفاع الأمريكي الأسبق "آش كارتر".. وكانت إجابته بسيطة ومختصرة حينما أجاب: لتعرف ماذا يريد بوتن والى ماذا يهدف فعليك الاستماع لما يقوله.

    وبدأ الوزير بسرد ما أرادنا بوتن أن نسمعه فقال: أن بوتن يعتقد ان هناك قوى دولية تريد إيقاف أي تقدم روسي، وهو مستاء للطريقة التي عوملت بها روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وكذلك هو مستاء من أخطاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ويريد تصحيحها، وأخيراً يريد ان يعامل العالم بلاده كقوة عظمى.

    ما سبق هو مقدمة لما هو آت وخلفية لفهم ما يحدث بين الكبار وما هي الأولويات في الوقت الراهن لهم.

    بلا شك أن جميع دول العالم لديها قضايا داخلية وخارجية كبرى تهمها فعلى سبيل المثال: (بريطانيا والبريكست، أمريكا والبطالة وقضايا اللاجئين، روسيا والاقتصاد والانتخابات، فرنسا ومكافحة ارهابيي دول الساحل وساركوزي، كوريا الجنوبية وقضايا الفساد الإداري بالإضافة للتهديد الشمالي، بورما والروهينغا، الهند وباكستان، النووي الإيراني ... الخ)

    ولكن القضايا الساخنة الأهم على طاولة الدول العظمى هي أربعة قضايا رئيسية لا غير وهي (سوريا، أوكرانيا، الصين، كوريا الشمالية)، وكل القضايا الأخرى هي إما متفرعة من هذه القضايا الأربع أو ذات أولوية منخفضة بالنسبة للقضايا الرئيسية على الأقل في الوقت الراهن ما لم تسخن وتشتعل وتتحول من مشاكل داخلية أو إقليمية الى قضية أطراف دولية ذات ثقل.

    ففي سوريا نجد أن القوى الكبرى بمجملها منخرطة في النزاع، فنظام الأسد يقتل شعبه وتدعمه في هذا إيران وحزب الله اللبناني بغطاء روسي، فيما يحاول التركي الاستفادة من الأزمة السورية رغم إعلانه انه صديق لإيران وعدو للأسد.

    فيما الأمريكيون حلفاء الاتراك يدعمون الكرد أعداء الترك. والكل يحارب الكل بذريعة محاربة الإرهاب والقضاء على داعش والجماعات الإرهابية مما أدى الى تصعيد قد تنتج عنه حرب كبرى بالخطأ أو تقسيم لسوريا او تسوية سياسية يزاح من خلالها الأسد لتحل محله حكومة ما.

    وعند استعراض قضية سوريا ستجدون أسماء الدول العظمى كلها هناك كأمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا وحتى الصين التي تجد اسمها في كل تصويت في مجلس الامن لدعم الأسد وروسيا، وهذا غير دول أخرى أصغر كإيران وتركيا بعد أن تحولت سوريا من مجرد ثورة ضد النظام الى صراع على السلطة بين مجموعات ثم الى صراع طائفي فصراع إقليمي ثم تحول ذلك كله الى صراع دولي.

    أما القضية الثانية من حيث الأهمية هي قضية أوكرانيا وهي دولة في أوروبا انسلخت من الاتحاد السوفييتي وكانت قد بدأت بالتقرب من الاتحاد الأوروبي حتى كادت ان تلتحق بالناتو قبل تدخل الروس بالضغط على الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا لرفض الانضمام للناتو , مما أشعل فتيل ثورة شعبية ضده أدت بالتالي لانقسام الأوكرانيين وفتح هذا المجال للروس بالتدخل بإرسال عشرات الآلاف من جنوده باللباس المدني "البدل الخضراء" للقرم والمشاركة في تصويت غير شرعي لضم القرم لروسيا وبالتالي تم ضمها بالقوة وسقط في هذا النزاع أكثر من عشرة آلاف قتيل.

    وأهمية قضية أوكرانيا بالنسبة لأوروبا أنها على حدودها الشرقية والخطر الروسي أصبح على بعد دولة من قلب اتحادهم واحتمالية التصادم بين الروس والناتو واردة مع تفاعلات قضايا أخرى جانبية ليست بهذه الأهمية ولكنها قد تغذي ذرائع الحرب فيما لو نشبت كقضية الجاسوس البريطاني والتدخلات الروسية في الانتخابات الأوروبية كفرنسا والمانيا كما قيل إنه حدث في انتخابات أمريكا الاخيرة.

    والقضية الثالثة في قائمة الأولويات هي قضية بحر الصين الجنوبي، وهذا البحر تطل عليه كل من الصين وتايوان والفلبين وبروناي وماليزيا وفيتنام ولكن الصين تعتبرها تابعة لسيادتها منفردة وتحظر الملاحة الجوية والبحرية وتمنع الصيد فيها.

    فيما تعتبرها بقية الدول المطلة وكذلك الولايات المتحدة انها مياه دولية ليست لأحد وهي طريق ملاحة بحرية وجوية.

    ولتصعيد الأزمة قامت الصين مؤخراً ببناء عشرات الجزر الصغيرة المتفرقة في هذا البحر وحولتها لقواعد عسكرية لمنع الملاحة الجوية والبحرية بالقوة مما ينذر بحرب بين الصين المتمسكة بحقها التاريخي في هذا البحر كما تدعي وأمريكا التي ترفض اقفال الأجواء والبحر ومضايقة الصيادين من دول حليفة لها كالفلبين وتايوان في مياه دولية.

    وأخيراً.. قضية نووي كوريا الشمالية. ولهذه القضية قصة وجب أن ارويها باختصار شديد:

    منذ حولي السبعة عقود وعندما كانت الإمبراطورية اليابانية تهيمن على اغلب بلدان آسيا قبل الحرب العالمية الثانية أخذت الآلاف من الكوريين للعمل بالسخرة في اليابان. وعند قيام الولايات المتحدة بضرب اليابان بالنووي انتقاماً من ضرب اليابانيين للأسطول الأمريكي في بيرل هاربور شاهد هؤلاء الكوريين ما نتج من آثار مدمرة للقنبلة النووية وحينما عادوا الى بلادهم نقلوا ما شاهدوه للكوريين التي أدركت القيادة الكورية أهمية الحصول على مثل هذا السلاح كسلاح ردع.

    بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تم تقسيم كوريا الى قسمين على غرار ما حدث لألمانيا بعد الحرب. ووضع السوفيات في وقتها "كيم ال سونغ" أمين للحزب الشيوعي فرئيساً لكوريا الشمالية. وفي عام 1950 نشبت "الحرب الكورية" وفيها قتل أكثر من 3 ملايين شخص.

    وساند الصينيون والسوفيات "الشماليون"، فيما ساندت الولايات المتحدة على رأس تحالف دولي "الجنوبيون"، وهنا بدأ الهوس الكوري الشمالي بامتلاك السلاح النووي لشعورهم انه الشيء الوحيد الذي قد يحمي وجودهم في ظل ضعف امكانياتهم الحربية الأخرى ولذلك ركزوا على السلاح النووي.

    طلب الكوريون الشماليون من الصين المساعدة لإنتاج القنبلة النووية ولكن الصين امتنعت نهائياً من تقديم المساعدة في هذا الأمر، فيما امتنع السوفييت من تقديمه لهم في البداية، ومع كثرة ترديد الشماليون للطلب وافق السوفييت على السماح لبعض مهندسيهم بالتدريب في محطات نووية روسية قبل أن تقوم في بداية الستينات ممثلة برئيس الاتحاد السوفييتي آنذاك خروتشوف بتوقيع معاهدة صداقة طويلة الأمد مع الشماليين وأهدتهم مفاعلاً نووياً جاهزاً من طراز "آيه آر تي 2000" بقدرة 5 ميغاواط شيد في منطقة "بونغ بيون" مقابل الالتزام بعدم انتشار السلاح النووي.

    ومنذ ذلك التاريخ والكوريون الشماليون يواصلون العمل في هذا المفاعل وتطويره وتوسعته حتى انهم في بداية الثمانينات امتلكوا كل ما يلزم لصناعة القنبلة النووية بشكل سري لدرجة أنهم وقعوا معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1985 وحتى سقوط جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي.

    حينها شعر الكوريون بالخطر بعد سقوط أهم الحلفاء، فانسحبوا من المعاهدة مما حدا بالولايات المتحدة للضغط على الشماليين للعودة للمعاهدة بحكم ان المساعدة السوفياتية لهم كانت مشروطة، ورضخ الكوريون لهذا شكلياً ولكنهم استمروا في التطوير سراً قبل ان يصطدمون بلجان التفتيش في 1992 وينقضون كل اتفاق.

    واليوم وبعد ثلاثة عقود خصصوا فيها ما يقرب من 20% من ناتجهم القومي من أجل النووي، أجرى الكوريون الشماليون خمس تجارب أحدهما هيدروجينية وطوروا صواريخ باليستية يصل مداها لعشرة آلاف كيلو متر وتستطيع الوصول للعمق الأمريكي مما يشكل تهديداً عالمياً غير مسبوق بالنظر لتصريحات الرئيس الكوري الشمالي الحالي ونفسيته.

    هذه هي القضايا الأربع الرئيسية التي تشغل الدول العظمى وما سواها هي قضايا متفرعة او منفصلة لكنها لا تحتل نفس الأهمية بالنسبة لتلك الدول.

    وعندما تبحث عن بوتن في صفحات القضايا الأربع ستجد أنه موجود في أثنتين منها بشكل مباشر كالقضية السورية والاوكرانية.

    وبشكل غير مباشر في القضية الكورية الشمالية، لنعود لما قاله وزير الدفاع الأمريكي آش كارتر في بداية المقال عندما نصح بالاستماع لبوتن لمعرفة ماذا يريد. ولبوتن مقولة شهيرة يقول فيها انه لولا الخونة "غورباتشوف" لما سقط الاتحاد السوفييتي الذي كان يتمنى بقاؤه.

    لذلك فهو يقف خلف الكوريين الشماليين بحذر ويستعملهم ككارت لم يحترق للضغط على الولايات المتحدة من جهة ولإرضاء ما بداخله تجاه الاتحاد السوفييتي الساقط، ولا تستغربوا لو وقف مع نووي الفرس ولو بشكل مؤقت ليصنع كرت آخر قد يستخدمه في وقت ما.

    وكذلك في قضية بحر الصين الجنوبي، يلتزم بوتن الصمت وتبادله الصين الامتنان لعدم تدخله بدعم بلاده في مجلس الأمن بالتصويت لصالحه متى ما تسنى لها ذلك.

    ولعل بوتن سمع بالمثل الدارج الذي يقول (لعبوني والا بخرّب) فطبقه في كل تلك الملفات الرئيسية وغيرها من الملفات الفرعية للفت النظر، وليزيل ما لحق بلاده من إهانات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ورغبته ان يعامل كقوة عظمى كما يحلم.. فهل أفلح في هذا؟

    في واقع الأمر أنه لم يفلح ولن يفلح في مسعاه لأسباب كثيرة أهمها أنه لا توجد دولة عظمى تتحالف مع أنظمة مارقة "دولياً" كالنظام السوري والكوري والإيراني بل وحتى ميليشيات إرهابية طائفية كحزب الله.

    ولن يفلح لأنه لوث أيضاً علم بلاده بدماء نصف مليون سوري وساعد في تهجّير الملايين من السوريين من بلادهم لمساعدة مجرم كالأسد ونظام فاسد كنظام الملالي بخلاف تسببه في مقتل أكثر من عشرة آلاف أوكراني، مما دفع بالمجتمع الدولي بأسره لاحتقاره ومعاقبته اقتصادياً وكأنه صغير بين الكبار.

    والخلاصة: ان الرئيس فلاديمير بوتن لن يحصل على الاحترام الذي تستحقه روسيا ويتمناه هو مادام في سدة الحكم، ولن يحظى بالمعاملة التي يأملها كدولة عظمى، ولن يصلح الشرق الأوسط بعد أن فقد أغلب حلفاؤه في المنطقة ولم يتبقى له الا المنبوذين من شعوب وحكومات دول العالم، وبالتالي لن يتوقف عن المناكفة والتصعيد حتى تنهار بلاده اقتصادياً ومعنوياً بفعل يده ذات صباح.

    وسامحونا على الإطالة حفظكم الله

    * بقلم: فهد السديري *
لمراسلتنا والتواصل معنا
للتسجيل و دخول حسابك
صحيفة سعودية مرخصة من وزارة الثقافة و الإعلام