• الوافدون العرب في بلدان الجزيرة العربية.. هل هو طرد أم رحيل واجب!؟


    بقلم : يوسف علاونه لا يمكن لمن عاش في بلد عقودا طويلة من الزمن أن ينساه فلقد تقطعت حتى روابطه الطبيعية ببلده، ولا يمكن لبلد أن يتحمل وجود غرباء فيه إلى الأبد فلا هم مواطنين وهناك من البلد نفسه من هو جاهز للحلول محلهم.

    في حالتنا كمقيمين عرب في بلاد الجزيرة العربية حيث أتيحت فرص العمل ظهر الأمر وكأنه استيطان دائم لكن من غير حقوق المواطنة ما يناقض المعايير الدولية أو حتى الممارسات الجارية على امتداد العالم وهكذا يوجد أساس للتمييز لا يمكن الفكاك منه، من دون أن يؤثر ذلك على استمرار جاذبية دول الجزيرة العربية للعرب ليحصلوا على فرص (عيش) و (عمل) فيها.

    وفي حالة (الرواد) ومن تلوهم ممن قدموا من مصر وفلسطين والأردن ولبنان وسورية والعراق والسودان واليمن وغيرها، مر زمن طويل جدا أصبح فيه هؤلاء الرواد شيبا بعد أن كانوا شبابا شهد الطفرات الأولى لبلدان الجزيرة، وكثير منهم مات، ليرثهم في نفس الوضع أبناء بل وأحفاد وجدوا لأنفسهم متسعا من (العيش) و (العمل) في الجزيرة العربية، وكثير منهم من دون أن يتدبر أو يحسب حساب المستقبل في بلاده الأصلية، حتى وصلنا إلى الوضع الحالي الذي يشعر فيه هؤلاء بأنهم يتعرضون للغبن أو التمييز أو عدم الاكتراث بمستقبلهم، فيما يشعر أهل البلاد بأنهم يخسرون فرصا هي من حقهم الطبيعي والمنطقي والمشروع كونهم أولى ببلادهم التي تعج الآن بالخريجين وحملة الشهادات والمؤهلين لشتى الوظائف والأعمال، بل وتعج أيضا بالعاطلين عن العمل من المواطنين!

    لقد تكررت الأزمة الحالية التي يواجهها (الوافدون) أو (المقيمون) في دول الجزيرة العربية عدة مرات قبل هذا، فجرى رحيل شبه جماعي لهؤلاء من العراق جراء تدهور أحواله عند وبعد غزوه للكويت، وحصل رحيل شبه جماعي للفلسطينيين والأردنيين من الكويت تحديدا وبدرجات أقل في بقية دول الجزيرة على خلفية تعقيدات المواقف التي صدرت أبان تلك المحنة التي عصفت بالعلاقات العربية العربية، ومثل ذلك جرى للأشقاء اليمنيين الذي أفقدهم موقف قيادتهم امتيازات كبيرة طالما تمتعوا بها في المملكة العربية السعودية، وشهدت بلدان الجزير انكماشات في الأوضاع الاقتصادية جراء انخفاض أسعار النفط منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بعد طفرة كبيرة في المناشط والأعمال لكافة القطاعات، ووقع الأمر ذاته أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكانت الأزمات الطارئة في أسعار النفط مصدر الدخل الرئيسي لهذه البلاد تنتهي في دورة ذات صلة بعناصر عدة طبيعية أو سياسية وغيرها، فيعود النشاط الذي يخفف من وطأة الدعوات للاستغناء عن العمالة الوافدة والهامشية.

    على أن الأزمة الحالية التي نتجت عن الانخفاض الكبير في سعر النفط بعد سعر قياسي بلغه لغاية عام 2014 لا يبدو أنها ستنتهي حتى ولو ارتفع سعر النفط لأي مدى ذلك أن التضخم يلتهم المزيد من الإيرادات مع ازدياد لا يمكن إغلاله في عدد سكان دول الجزيرة العربية هذا عدا عن الأكلاف الزائدة التي تتكبدها الموازنات الخليجية في الجانب الدفاعي والأمني ومواجهة المشروع الإيراني العدواني الذي يفرض عليها نفقات باهظة كونها واجبة وتلبي عبئا استراتيجيا جراء غياب الأطراف العربية الأخرى التي اعتادت القيام بواجبات مباشرة بالنيابة عن دول الجزيرة العربية في الحقب السابقة.

    لقد تغير الحال كثيرا مما يحتمل الإسهاب فيه بالمزيد من الرؤى والوقائع المتطابقة، فدول الجزيرة العربية النفطية ليست هي التي جاء إليها العرب الأوائل، فلم تعد المدرسة طلابا من البلد ومعلمين غالبيتهم من مصر والأردن وفلسطين وغيرها، وما عاد المرضى من المواطنين والكادر الطبي من العرب والأجانب، وهكذا في بقية القطاعات، وفي المجمل ما عاد مقدورا من جانب حكومات هذه الدول أن تزج بالمواطن في وظيفة تنتظره فور أن يحصل على مؤهله العلمي.

    هنا من الطبيعي أن تنشأ وتزدهر أفكار تناهض وجود (الغريب) باعتبار أن (القريب) أولى وأحق وفقا للقاعدة السائدة دائما وعلى مر التاريخ، وفي شتى المجتمعات، فتكون ثقافة تحرص على مصلحة (ابن البلد) على حساب الغريب الذي دهمه واقع يعرفه لكنه لا يريد تفهمه وهو أن هذه ليست بلده، وأن مصيره هناك من حيث أتى هناك وليس ها هنا.. على أن هذا التطور في الأحوال (الثقافية) للمسألة ينطوي أحيانا على كلام وعبارات لا تراعي ما يتوقعه (الغريب) الذي عايش المجتمع وصار منه وباقتراب شديد من مشاعر الامتنان والتقدير على (عمر) أنفقه في خدمة هذا المجتمع وصولا حتى إلى الاندماج في عاداته وتقاليده، وفي تفاصيل تذهب ثقافة مناهضة الوافد إلى ما هو مؤذٍ للمشاعر مع المنطق كأن يقال بأن الوافدين يسببون للازدحام المروري ولا بد من تقييد فرص حصولهم على إجازة القيادة!

    وفيما تتقاذف الأمر شتى مستويات الثقافة والوعي والذوق بحيث تجد صاحب الكلمة الطيبة والأسلوب المناسب يقول الذي يريد من دون أن يؤذي مشاعر الآخر هناك من يحول الأمر إلى عنصرية مقيتة وتقاذف بالتمنن وغير ذلك، لكن الأمر ينطوي على مخاطر جمة ينبغي معها مراعاة عدد من الثوابت والتي منها ما هو ضروري في المعالجة خصوصا على المستوى القومي العربي مما يمكن إيجازه في النقاط التالية:

    أولا: أن هؤلاء وهؤلاء في النهاية (عرب) من أمة واحدة تربطها علاقات تتعدى في جوهرها حجم وحدود الجالية الصغيرة المقيمة هنا أو هناك وجاء الوقت للاستغناء عن خدماتها طالما أنها لم (تستحق) أو لم (تحصل) على شهادة الجنسية أو (المواطنة) من الدولة المضيفة، وبالتالي عدم السماح بأن تكون مشكلة الجالية سببا لشرخ نفسي بين الشعبين في البلدين.

    ثانيا: ينبغي على بلاد العمالة الوافدة أن تفهم جيدا أن دول الجزيرة العربية ومثلها طبعا العراق وليبيا وغيرها - الأخيرتان خربهما أهلهما بأيديهم - لم تعد قادرة على استيعاب الخريجين وطالبي العمل فيها، وأن الحل الوحيد هو الاعتماد على الذات وخلق فرص العمل الجديدة وإصلاح الهياكل الاقتصادية وإنشاء الصناعات وتطوير الزراعة وكافة القطاعات القادرة على حل مشكلة البطالة وتقليص حصة التحويلات من بلدان الجزيرة في الناتج القومي الإجمالي، وهو ما يوازي مثله من ضرورة مغادرة الدول الغنية النفطية لحقبة الدولة الريعية التي تقدم كل شيء للمواطن سواء اشتغل أو جلس في منزله.

    ثالثا: أن من مخارج المشكلة قيام الدول الغنية بتغذية استثماراتها في الدول العربية الفقيرة الأمر الذي لا يتطلب مبادرة الدول الغنية فقط وإنما مبادرة الدول الفقيرة المتلقية للمساعدات إلى إصلاح نظمها التي يعشش فيها الفساد والرشوة والتخلف الإداري.

    نحن العرب ومن الجانبين - المواطنون والمقيمون - وهذا الجانب النفسي الذي نهتم فيه مهم وجوهري في مشاعرنا المتبادلة لكن ذلك يجب أن لا يطمس من أمام أعيننا أن الأوهام لا تطعم خبزا ولا تؤسس لعيش.
    عاشت الأمة العربية.


    *يوسف علاونه*
لمراسلتنا والتواصل معنا
للتسجيل و دخول حسابك
صحيفة سعودية مرخصة من وزارة الثقافة و الإعلام