• ‏الحج عبادة ومقاصد وبرهان على ظهور الإسلام.. وقوة السعودية


    بقلم : يوسف علاونه سنكتب عن الحج شرعا، وهذا هو الأساس، لكننا سنقدم الحج كحدث عالمي يعلو على السياسة والإعلام والتواصل والاقتصاد والفكر والثقافة، والنظام والتنظيم ليكون على ما هو عبادة خالصة لله وحده لا شريك له كل ذلك أو شيئا من كل ذلك.

    هذا مؤتمر أممي عالمي بل أضخم اجتماع لبني آدم يحدث سنويا، ولهذا هو فوق أنه مثار إعجاب وتقدير وفخر واعتزاز فإنه مثار ضغينة وحقد وحسد من كل الذين لا يعتقدون بقداسة الكعبة التي قال الله عنها (بيتي) والتي أقسم ببلدها وعظم شأنها على ما سواها من الأماكن، حتى إذا كان وقت الحج وسارت مناسكه على خير ما يكون ضاقت صدور هؤلاء، ذلك أن الحج يفضح شركياتهم، ويصغّر مقدساتهم وزياراتهم المبتدعة المفبركة، ويجعلها حتى أمام أنفسهم بالحضيض، فتجدهم عوض أن يقروا ويعترفوا يعاندون ويتبجحون بغباء لا نظير له بأن زيارة فلان عن مليوني حجة!.. وأن الله يوم عرفة الذي هو يوم الحج الأكبر يترك الحجيج ويظل برحمته زوار فلان من عباده الغابرين!
    ‏وإذا كان التجرّؤ حاصلا من أجل المساس بالحج كشعيرة إيمانية، فمن الطبيعي الواجب أيضا عند هؤلاء أن يمسوا البلد الذي ينظم الحج بهذا الإتقان الذي صار جزءًا أساسيا من سلوكه بالمران والتدريب والمواظبة وبالتصميم بل ومن صلب منظومة الحكم كون حاكم هذا البلد المبارك هو خادم الحرمين الشريفين اسما وفعلا والتزاما وفخرا.

    المدهش ضمن البعد الأممي للحج أن الله سبحانه وتعالى ما ذكر الدعوة إلى الحج إلا موجهة لـ (الناس) فهذه الفريضة واجبة على كل إنسان شريطة أن يسلم لله وحده لا شريك له، الخالق البارئ المصور.

    يقول تعالى: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" الحج 27، مع التأكيد على عدم الشرك بالله وهو أعظم الذنبوب فالحج فقط لله وحده: "حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" الحج 31.

    وقصة الحج كما نفهمها كمسلمين هي أرض مباركة ومكان مبارك فكأن المطلوب من الخليفة في الأرض أن يأتي لبيت أبيه الأول آدم الذي هو أول الناس على الأرض: "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" آل عمران 96-97.

    وهو بيت الله والمسجد الحرام قبلة المسلمين الذين جرى امتحان صبرهم على عدم اتخاذه قبلة من البداية فصبروا وقبلوا بينما نفوسهم ونفس رسولهم صلى الله عليه وسلم تهوى قبلته دون سواه: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" البقرة 144.

    وقصة مكة هي قصة البيت، بل هي قصة هذا الدعاء الذي لهج به أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكانت هذه الأرض المباركة إلى يوم الدين، "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" البقرة 125، فرفع إبراهيم ولم يضع القواعد من البيت بعد أن بوأ الله له مكانه "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" البقرة 127، ودعا ذلك الدعاء المبارك الذي أجابه الله سبحانه: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" البقرة 126، ثم أكمل دعاءه سائلا الله كل خير لهذا المكان ورسولا من أهله هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" البقرة 128-129.

    والقصة من المبتدأ تدل على ما نحن فيه، فإبراهيم يقول لهاجر الملتاعة من وحشة المكان بأنه ربه أمره بأن يتركهما (وإسماعيلَ) هنا، وهي تجزم بأن الله إذن لن يضيعهما!

    فالحج هنا لكأنه عودة إلى البيت الأول الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل الذي لم يضيعه الله وأمه.. وهو طواف بذات اتجاه حركة وطواف كل شيء في هذا الكون حول بيت لله يتعامد مع البيت المعمور في السماء العليا، وهو اليقين بأن الرزق فقط من الله ولا أحد سواه، طالما أن الله أعطى هاجر أعظم الرزق وسبب الحياة (الماء) من هذه الصخور الصلدة السوداء في الوادي غير ذي الزرع.

    أليس أعظم الرزق الماء؟

    الله يجيب عندما يربط الاستغفار بكل أنواع الرزق وأولها الماء.. الماء (زمزم) الذي صنع مكة هذه التي نراها اليوم أعمر مدائن الدنيا ودون توقف أو تراجع: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم (مِّدْرَارًا)* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ (أَنْهَارًا)" نوح 10-11-12.

    أما إن تحدثنا بمقاصد الدين دون أي التباس، فلا شك أن لكل عبادة من العبادات حكما كثيرة ومقاصد عظيمة تجعل المسلم أكثر شغفا لأدائها والتعبد بها، ومن هذه العبادات الحج ومن مقاصده:

    أولا: التذكير بأول منازل الآخرة وذلك يتجلى ذلك بارتداء ملابس الإحرام، حيث يتجرد الإنسان من كل متعلقاته ويتذكر أول منازل الآخرة وهو القبر.

    ثانيا: التذكير بيوم الحشر، ففي الحج يجتمع الناس من كل حدب وصوب على اختلاف بيئاتهم ولغاتهم، وأجناسهم وأعراقهم، في صعيد واحد في يوم عرفة ‏لا يملكون شيئا من حطام الدنيا إلا ما يواري سوءاتهم.. جاؤوا شعثا غبرا، تخلوا طواعية عن كل شيء، ليقفوا في هذا الصعيد الطاهر أداء للفريضة وطلبا للمغفرة.

    ثالثا: التربية الإيمانية وإحياء روح الجهاد ويظهر ذلك جليا من خلال ما يكابده الحاج في رحلته للحج ابتداءً من مفارقة الأوطان وانتهاءً برجوعه إليها، وما يعترضه بين ذلك من عناء ومشقة وتعب، وهذا كله يتطلب من الحاج أن يكون قويا مستطيعا لتحمل هذه المشاق كأنه في ساحات الوغى.

    رابعا: التربية على الصبر والإيثار، ففي الحج يأتي الناس من بقاع شتى تختلف طبائعهم ففيهم اللين الجانب، وفيهم الغليظ الفظ، وفيهم الحاد الطبع وفيهم الشديد، وفيهم الضعيف، وفيهم الشيخ الهرم والشاب اليافع والصبي الصغير والطفل الرضيع ولابد للحاج أن يتحلى بخلق الصبر والإيثار فلا يزاحم الكبير، ولا يقسوا على الصغير، لا سيما عند الطواف والرمي وتقبيل الحجر.

    خامسا: التذكير بمبدأ الأخوة ووحدة الصف فاجتماع الحجاج في صعيد واحد من بلدان شتى في أداء فريضة دون تمييز بين غنيهم وفقيرهم وعربيهم وعجميهم، يعبدون إلها واحدا، ويقتدون بنبي واحد، وقبلتهم واحدة، وهدفهم واحد، وتلبيتهم واحدة، إنها الأخوة أخوة الإسلام، وإخوة الدين.

    سادسا: وحدة الهدف والمصير، فترى الحجاج جاؤوا من كل فج عميق، لمقصد واحد إنه طلب المغفرة، والتقرب إلى الله بأداء ما افترضه عليهم ‏تحت لواء واحد، إنه الإسلام وشعار واحد وهو التلبية وهكذا يجب أن يكون المسلمون في هدفهم وشعاراتهم فكل شعار سوى الإسلام باطل.

    سابعا: التذكير بأولويات السياحة في الإسلام أصبحت السياحة في العصر الحديث جزءا لا يتجزأ من حياة الناس أيام الإجازات أو العطل ‏وتستهلك جزءا كبيرا من مدخراتهم، بل ربما تجد بعض المسلمين يعد لها العدة منذ زمن طويل، ليشد الرحال شرقا أو غربا، فيضيع وقته بين اللهو والترف والملذات دون فائدة أو مصلحة تعود عليه، وفريضة الـحج رحلة تربوية إيمانية يحصل بها الأجر والثواب العظيم، فوق أن الحج مباح فيه للناس الحصول منافع: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" الحج 28.

    ثامنا: التعارف، حيث يجيء الحجاج من بلدان وقبائل شتى، في مكان واحد جمعتهم أخوة الإسلام، والتعارف بينهم أمر حتمي وإن كانوا من بلد واحد نظرا لوحدة المكان، وطول المقام، وبهذا التعارف تزداد روابط الألفة والأخوة بينهم، وكثيرا ما يمتد هذا التواصل إلى ما بعد العودة إلى ديارهم.

    تاسعا: التوقيف في العبادة دون البحث عن عللها، فالحج يذكرنا بأن العبادات توقيفية لا دخل لأحد فيها بتبديل و تغيير، أو نقصان زيادة، لأن الله تعالى هو الذي شرعها، واختار لعبادة التعبد وفق ما أراد سبحانه لحكمة يعلمها هو، ولا يحق للمسلم أن يشغل نفسه بالبحث عن علل تقبيل الحجر، أو الجلوس في منى أياما دون عمل شعائر سوى أداء الصلوات فقط، أو الطواف من الكعبة يساراً وغير ذلك، فالمسلم يتعلم من هذا وغيره كيفية الاستسلام و التسليم لله فيما أمر لعبادته دون البحث عن علتها، لأنه من تمام الإيمان.

    ومقاصد الحج كثيرة، وحكمه غزيرة فحسبنا بها من عبادة عظيمة أنها من رب عظيم وليست من هرطقات البشر وأساطير من غبر، فكم نشاهد من أناس يتعبدون إلى الله بالرقص واللطم وشق الرؤوس وغير ذلك من أحوال وأفعال تستحي الحيوانات أن تفعلها!. فيكفي للحاج هذه الراحة النفسية، والسكينة في قلبه، وشعوره بأن الله قد رضي عنه وغفر له ما تقدم من ذنبه حتى كأنه قد وُلِد من جديد.

    فأين هذا الشعور وهذه الراحة من أولئك الذين اخترعوا دينا وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان ثم زعموا أن الله أمرهم بها، وما أمرهم بها إلا شيخهم إبليس وأعوانه من الإنس والجن.

    ختاما: غفر الله لنا ولكم وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.. وبارك الله بالسعودية وقيادة السعودية وشعب السعودية.

    *يوسف علاونه*
    twitter: @yousefalalawna
    تعليقات كتابة تعليق

    يرجى كتابة مايظهر في الصورة بشكل دقيق للمتابعة

لمراسلتنا والتواصل معنا
للتسجيل و دخول حسابك
صحيفة سعودية مرخصة من وزارة الثقافة و الإعلام